الاثنين، 31 أكتوبر 2011

السلطان محمّد الفاتح

السلطان الغازي محمد خان الثاني
"الفاتح"
السلطان الغازي محمّد خان الثاني، المُلقب "بالفاتح" أو "أبو الفتوح" و"أبو الخيرات"، هو سابع سلاطين الدولة العثمانية، وصاحب النبوءة التي قال بها الرسول محمّد صلّى الله عليه وسلّم:
<< لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ >>
ولادته ونشأته:
وُلد محمد الثاني للسلطان مراد الثاني وهُما خاتون، فجر يوم الأحد بتاريخ ٢٠ نيسان سنة ١٤٢٩ م، الموافق فيه ٢٦ رجب سنة ٨٣٣ هـ في مدينة أدرنة عاصمة الدولة العثمانية آنذاك. أمضى محمد الثاني سنوات طفولته في كنف أبيه، وعندما بلغ ربيعه الحادي عشر أرسله والده السلطان إلى ولاية أماسيا ليكون حاكمًا عليها وليكتسب شيئًا من الخبرة اللازمة لحكم الدولة، كما كانت عليه عادة السلاطين العثمانيين قبل ذلك العهد. فمارس محمد الأعمال السلطانية في حياة أبيه، ومنذ تلك الفترة وهو يعايش صراع الإمبراطورية البيزنطية في الظروف المختلفة، كما كان على اطلاع تام بالمحاولات العثمانية السابقة لفتح القسطنطينية، بل ويعلم بما سبقها من محاولات متكررة في العصور الإسلامية السابقة منذ خلافة معاوية بن أبي سفيان وحتى عهد والده.

رسم بيد الفاتح عندما كان صبيًا
كان السلطان مراد الثاني قد أرسل إلى ولده خلال فترة حكمه على أماسيا، عددًا من المعلمين،   مثل الشيخ محمد چلبي زاده والشيخ سراج الدين الحبلي، لكنه لم يمتثل لأمرهم، ولم يقرأ شيئًا، حتى أنه لم يختم القرآن الكريم، فطلب السلطان المذكور رجلاً له مهابة وحدّة، فذُكر له الشيخ والمُربي أحمد بن إسماعيل الكوراني، فجعله معلمًا لولده وأعطاه قضيبًا يضربه به إذا خالف أمره، فذهب إليه ودخل عليه والقضيب بيده، فقال: "أرسلني والدك للتعليم والضرب إذا خالفت أمري"، فضحك الأمير الفتى من ذلك الكلام، فضربه الشيخ الكوراني في ذلك المجلس ضربًا شديدًا، حتى خاف منه الأمير محمد، وختم القرآن في مدّة يسيرة. هذه التربية الإسلامية كان لها الأثر الأكبر في تكوين شخصية محمد الفاتح، فجعلته مسلمًا مؤمنًا ملتزمًا بحدود الشريعة، مقيدًا بالأوامر والنواهي، معظمًا لها ومدافعًا عن إجراءات تطبيقها، فتأثر بالعلماء الربانيين، وبشكل خاص معلمه الشيخ الكوراني وانتهج منهجهم، وبرز دور الشيخ آق شمس الدين في تكوين شخصية محمد الفاتح وبثّ فيه منذ صغره أمرين هما: مضاعفة حركة الجهاد العثمانية، والإيحاء دومًا لمحمد منذ صغره بأنه الأمير المقصود بالحديث النبوي، لذلك كان الفاتح يطمع بأن ينطبق عليه حديث النبي محمد عليه الصلاة والسلام.

تولّي العرش للمرة الأولى:
اعتلى الفاتح عرش السلطنة العثمانية لأوّل مرة في ١٣ تموز سنة ١٤٤٤ م، الموافق فيه ٢٦ ربيع الأول سنة ٨٤٨ هـ، أي عنما كان يبلغ من العمر أربع عشرة سنة، وذلك بعد أن قرر والده السلطان مراد الثاني أن يعتزل السياسة بسبب المشاكل الداخلية والخارجية الكثيرة التي عانت منها الدولة، ولعلّ موت ابنه علاء الدين، الذي كان يعده لخلافته، كان له الأثر الأكبر في جعله يسأم الحياة وغمومها وهمومها. كان الاعتقاد السائد في الدوائر الأوروپية المُعادية للعثمانيين، أن موقف هؤلاء أضحى حرجًا للغاية بعد اعتزال مراد الثاني وتولّي ابنه الفتى محمد زمام الأمور ولا خبرة له في الشؤون السياسية، وأن دولتهم أضحت منهكة، وباتت أطرافها معرّضة للاقتطاع من جانب أمراء الحدود الذين أجروا مفاوضات مع أعداء الدولة، بالإضافة إلى ذلك، فقد كانت توجد آنذاك قوّات أوروپية معسكرة في البلقان يمكن الاستفادة منها، فضلاً عن أن استمرار العمليات العسكرية يُمكن أن يُعد حافزًا لملوك أوروپا لتقديم مساعدات جديدة وجديّة. استغل البابا إنجين الرابع هذه الفرصة وأخذ يُحرّض المجر على نقض معاهدة السلام التي أبرموها سابقًا مع السلطان مراد الثاني، وشاركه في ذلك البيزنطيون الذين أطلقوا سراح أورخان، حفيد السلطان بايزيد الأول، المدعي بالحق في عرش آل عثمان، وقد أملوا في طرد العثمانيين من  أوروپا واستعادة أملاكهم السابقة، ما أدّى إلى تنكر بعض أمراء وملوك أوروپا لتلك المعاهدة، بحجة أن المعاهدة مع الكفّار لا قيمة لها، وأن المصلحة المسيحية العليا هي التي يجب أن توضع فوق أية اعتبارات أخرى. اقتنعت القيادات المسيحية المعسكرة في البلقان بهذا التفسير، وتحركت مشاعر ملك إنگلترا وملك فرنسا وحكومات البندقية وجنوة وفلورنسا، على الرغم مما بينها من نزاعات؛ للمساهمة في هذه الحرب الصليبية. بناءً على ذلك، تشكّل جيش أوروپي عظيم وتقدم باتجاه الأراضي العثمانية. كان الخطر أكبر من قدرات محمد الفتى، وأدرك وزراؤه وقادته أن المعركة هي معركة مصير، فذهب وفد منهم إلى مراد الثاني في عزلته في مغنيسيا، يحملون رسالة من ابنه محمد يقول فيها:
<< إن كنت أنت السلطان فتعال وقف على قيادة جيشك ورياسة دولتك وإن كنت أنا السلطان فإني آمرك بقيادة الجيش >> 
معركة وارنة بين العثمانيين والقوى الحليفة
 وبناءً على هذه الرسالة، عاد السلطان مراد الثاني وقاد الجيش العثماني في معركة وارنة، التي كان فيها النصر الحاسم للمسلمين بتاريخ ١٠ تشرين الثاني سنة ١٤٤٤ م، الموافق فيه ٢٨ رجب سنة ٨٤٨ هـ. بعد ذلك النصر عاد السلطان مراد الثاني إلى عزلته مرة أخرى، لكنه لم يلبث فيها طويلاً هذه المرة أيضًا، إذ أن الأحداث السياسية المستجدة حتّمت عليه العودة إلى العمل السياسي مرة أخرى، ويبدو أن لذلك علاقة بالمدى الذي وصلت إليه العلاقة بين السلطان محمد الثاني والصدر الأعظم خليل باشا الجندرلي من توتر، بالإضافة إلى تجدد الأخطار الأوروپية. فقد تفجّرت العلاقة بين السلطان محمد والصدر الأعظم على الأرض، في ظل الخلاف الذي نشب بين درويش حروفي، المشمول بحماية السلطان، وبين كل من المفتي، والصدر الأعظم. ومما زاد العلاقة تأججًا، الاختلاف في وجهات النظر بشأن الصلح الذي عقدته الدولة البندقية خلال شهر شباط من عام ١٤٤٦ م، الموافق فيه خلال شهر ذي القعدة من عام ٨٤٩ هـ، والمماثل في بنوده للصلح الذي عُقد في عام ١٤٣٠ م، الموافق فيه عام ٨٣٣ هـ، ما دفع الصدر الأعظم إلى تحريك تمرّد من جانب جنود الإنكشارية المناوئين للسلطان، فاستدعي مراد الثاني للعودة مجددًا لتولي السلطة، فأخمد ثورة الإنكشارية وأعاد الهدوء للعاصمة، ثم جمعهم وانتقل بهم إلى أوروپا لخوض حروبه هناك.

تولّي العرش للمرة الثانية:
انتقل السلطان محمد الثاني إلى مانيسا الواقعة بغرب الأناضول بعد عودة والده، وخلال هذه الفترة  تزوّج بوالدة ولي العهد، كما كان يُطلق على زوجات السلاطين، أمينة گلبهار ذات الجذور الروميّة النبيلة، من قرية "دوفيرا" في طرابزون، وأنجب منها بايزيد الثاني، كما تزوّج أيضًا بزوجته الثانية مكرّم خاتون، الأميرة من سلالة ذي القدر التركمانية. قام محمد الفاتح خلال الفترة التي قضاها في مانيسا بضرب النقود السلجوقية باسمه، وفي شهر آب أو أيلول من عام ۱٤٤۹ م ، توفيت والدته، وفي ٧ شباط سنة ۱٤٥۱ م، الموافق فيه ٥ محرّم سنة ۸٥٥ هـ، توفي السلطان مراد الثاني وهو على أهبة الاستعداد لقتال أمير ألبانيا الشمالية المدعو إسكندر بك. وما أن وصلت أنباء وفاة السلطان إلى ابنه محمد الثاني، حتى ركب فورًا وعاد إلى مدينة أدرنة حيث تُوج سلطانًا للمرة الثانية في ۱۸ شباط، الموافق فيه ۱٦ محرّم، من نفس العام، وأقام جنازة لوالده الراحل، وأمر بنقل الجثمان إلى مدينة بورصة لدفنه بها، وأمرا بإرجاع الأميرة مارا الصربية إلى والدها، أمير الصرب المدعو جرادج برانكوڤيتش، الذي زوجها للسلطان مراد الثاني عندما أبرم معه معاهدة سلام قرابة عام ۱٤۲۸ م.  اتبع محمد الثاني بعد توليه العرش سياسةً شديدة الحذر تجنبًا لإثارة قلاقل سياسية، ففي الداخل أبقى خليل جندرلي في منصب الصدر الأعظم على الرغم من سوء علاقتهما، والحقيقة أن الأخير كان الرجل المناسب لانتهاج سياسة التهدئة التي بدا أنها تفرض نفسها في ذلك الوقت، بسبب النكبات التي وقعت في عهد مراد الثاني، وجعلت من الصدر الأعظم رجل الدولة المحنّك الذي يمكنه اتباع سياسة الوفاق هو والمجموعة التي يتزعمها، مع الغرب الأوروپي. أما فيما يتعلق بالإنكشارية، فإن محمدًا الثاني كان أوّل سلطان يقبل، بعد بضعة أشهر، إعطائهم منحة الجلوس التي كانوا قد طالبوا بها وأثاروا الفتنة من أجل الحصول عليها، لكنه أقدم على عزل عدد من قادتهم، كما أجرى تشكيلات في قواتهم.  وذلك خوفًا من أن يثوروا عليه مجددًا بما أنه لم يكن يتمتع بشعبية كبيرة في وسطهم. كان للسلطان محمد سبب آخر أيضًا لا يقل خطورة عن الأسباب سالفة الذكر، يدفعه لانتهاج هكذا سياسية، وهو خوفه من أن يُطلق البيزنطيون ضده الأمير أورخان المُطالب بالعرش.

حدود الدولة العثمانية عند اعتلاء محمد الثاني عرش السلطنة
عندما تولّى محمد الثاني المُلك بعد أبيه لم يكن بآسيا الصغرى خارجًا عن سلطانه إلا قسم من بلاد القرمان ومدينة سينوپ ومملكة طرابزون الروميّة، وأضحت الإمبراطورية البيزنطية قاصرة على مدينة القسطنطينية وضواحيها. أما خارج آسيا الصغرى، فقد كان إقليم المورة مقسمًا بين البنادقة وعدد من الإمارات الصغيرة يحكمها بعض أعيان الروم أو الإفرنج الذين تخلفوا عن إخوانهم بعد انتهاء الحروب الصليبية، أما ألبانيا ومنطقة أپيروس فكانت تحت سيطرة إسكندر بك، أما بلاد البشناق والصرب فكانت تتمتع باستقلال ذاتي تحت السيادة العثمانية. واجه محمد الثاني، في بداية حياته السياسية، بعض الصعوبات في الأناضول، ذلك أن إبراهيم القرماني، وبتشجيع من الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الحادي عشر، استغل مرحلة الانتقال من عهد إلى عهد فهاجم الأراضي العثمانية في أنطالية، ويبدو أنه لم يكتف بذلك، بل حثّ الأمراء التركمان على الاقتداء به، مثل أمراء منتشا وآيدين وكرميان. وتُمنى الهجمات العثمانية الأولى ضده بالفشل، ويضطر السلطان إلى التدخل شخصيًا، في خين يجري إرسال حاكم الأناضول لحرب الأمير إلياس حاكم منتشا. وإذ يجد إبراهيم القرماني نفسه مجبرًا على الفرار، فإنه يلجأ إلى منطقة طاشوز الساحلية والجبلية حيث يضطر إلى طلب الصلح، ويسترد محمد الثاني مدائن آق شهر وبيشهر وسيديشهر، التي كان والده قد اضطر إلى التخلي عنها، ويتعهد الأمير القرماني، بالإضافة للولاء التام للدولة العثمانية، بإرسال مبلغ من المال سنويًا، وبهذا استتب الهدوء والنظام لفترة مؤقتة في آسيا الصغرى.

الفتح الكبير - فتح القسطنطينية:
انتعشت من جديد، في عهد محمد الثاني، سياسة الفتوح والنظام المركزي الذين كان يجري تطبيقهما في أيام السلطان بايزيد الأول، وراح تقليد الغزو التركماني يتحول إلى غاية داخل الإطار الإسلامي، وكان العائق الوحيد امام محمد الثاني، لتنفيذ سياسته العالمية، هو الإمبراطورية البيزنطية التي كانت المحرّك الأول للتهديد الصليبي، فكان لا بد من حل هذه المشكلة. وكان الروم قد استغلوا انشغال محمد الثاني بإخضاع الإمارة القرمانية، فهددوا بإطلاق سراح أورخان، المُطالب بالعرش العثماني، ليرغموا السلطان على تقديم بعض التنازلات. ومن الأمور التي دفعت السلطان إلى التفكير في غزو القسطنطينية، جلوسه على عرش دولة منقسمة إلى قسمين: الأناضول الذي أضحى بلادًا إسلامية اندمجت في حضارة الإسلام، والروملّي الذي كان قد فُتح حديثًا ولا يزال منطقة ثغور، وتأثر تأثرًا عميقًا بنظريات وتقاليد مجاهدي الثغور الذين استوطنوه، كما تأثّر بمعتقدات وطرق الدراويش الصوفيّة الذين صحبوا هؤلاء المجاهدين، فكان الوضع يتطلب إيجاد صلة بين القسمين، بين العاصمة القديمة بورصة، في آسيا الصغرى، والعاصمة الجديدة أدرنة، في الروملّي، وكانت القسطنطينية تُشكل هذه الصلة. كما كان لفتح القسطنطينية هدفًا سياديًا، إذا أن بقائها في يد البيزنطيين من شأنه أن يُهدد المواصلات وعمليات نقل القوّات ما بين الممتلكات العثمانية الآسيوية والأوروپية، أما فتحها فإنه كفيل بتشديد القبضة العثمانية على الأراضي التي يحكمونها، ويخلع عليهم المهابة والعظمة، فأضحى هذا الفتح ضرورة سياسية واستراتيجية مُلحّة، فضلاً عمّا فيه من مغزى ديني كبير.
قسطنطين الحادي عشر، آخر أباطرة الروم

كان جو العلاقة العثمانية - البيزنطية قد اكفهرّ بعد اعتلاء محمد الثاني العرش، بفعل تبدّل الظروف السياسية في عام ۱٤٥۳ م، الموافق فيه عام ۸٥٧ هـ، فقد تخلّى الأوروپيون عن الحكومة البيزنطية بفعل النكبة التي منوا بها في معركة وارنة، معتقدين أن فكرة الحرب الصليبية الأوروپية لم تعد مجدية في مثل الظروف الصعبة كانت تمر بها الإمبراطورية، وبالتالي لم يعد هناك أمل أمام الإمبراطور البيزنطي إلا أن يعتمد على نفسه وعلى قوته الذاتية للتصدي للعثمانيين عندما يهاجمونه، لا سيما وأنه أهمل المحافظة على تحالفاته مع الغرب ومواصلاته بالجنوب، فاستغل السلطان محمد هذه الثغرة لعزله، فأبرم معاهدات مع جنوة والبندقية وراجوزة وإمارة غلطة وفرسان القديس يوحنا، وتفاهم مع يوحنا هونياد حاكم المجر، فتعهّد له بأن يمتنع عن مساعدة حاكم الأفلاق ضد المجر وعن إنشاء الحصون عند نهر الدانوب، مقابل سلم وأمان بين الطرفين. كما أرسل قوة عسكرية إلى المورة لفتحها ومنع أميرها طوماس وديمتريوس الروميين من مساعدة الإمبراطور قسطنطين، فيكون بهذه التحالفات قد عزل الإمبراطور البيزنطي عن العالم الغربي. أما في آسيا فقد أخضع القرمانيين، ما قضى على كل أمل في تحالف بيزنطي قرماني. أخذ السلطان يستعد ويتجهّز لحصار القسطنطينية والقضاء على هذه المدينة نهائيًا التي ما فتئت تهدد الدولة العثمانية من حين لآخر، متأثرًا بأفكار مربيه الشيخ الكوراني والشيخ آق شمس الدين، على الرغم من المعارضة الحذرة من جانب الصدر الأعظم خليل جندرلي وأتباعه، وشعر الإمبراطور البيزنطي بما يُعده السلطان، فتملّكه الهلع وراح يستعد هو الآخر للمواجهة.

قلعة روملّي حصار
أقدم محمد الثاني على خطوة تمهيدية، فأنشأ  قلعة "روملّي حصار"، على الشاطئ الأوروپي إلى جوار القسطنطينية، مقابل قلعة "أناضولي حصار" التي بناها السلطان بايزيد الأول على الشاطئ الآسيوي في أضيق نقطة من مضيق البوسفور، ما جعل العثمانيين يسيطرون سيطرة كاملة على المضيق ويراقبون السفن الآتية من البحر الأسود. كان بناء القلعة بمثابة النقطة الحرجة التي وصلت إليها العلاقة السلمية بين الطرفين، ورأى السلطان في بناء هذه القلعة مقدمة لإسقاط المدينة، وقد أدرك الإمبراطور ذلك، فأرسل سفيرين إلى السلطان في أدرنة للاحتجاج، لأن بناء القلعة بنظره يعني خرق السلطان للمعاهدة التي سبق أن عقدها والده مع الإمبراطور البيزنطي، ونصّت على عدم قيام العثمانيين ببناء تحصينات على الساحل الأوروپي للبوسفور، إلا أنه لم يكن يأمل في تلقي جواب مطمئن، وعندما عاد سفيراه بعد أسبوع تحققت مخاوفه، ذلك أن السلطان أبدى عدم اكتراث، وبيّن بصورة قاطعة أنه لم يخرق أي معاهدة، وأنه رجل سلام، وبالتالي فإن ما قام به تطلبته سلامة دولته وجيشه، وأنه لم يستهدف نشوب الحرب. نتيجةً لرد السلطان قرر الإمبراطور العمل على إيقاف أعمال بناء القلعة، فحذّره رجال بلاطه من أن ذلك يعني الإسراع في إعلان حرب غير متكافئة، وكان الإمبراطور يُدرك ذلك، إلا أنه اعتقد أن لا قيمة لتأجيل الحرب. وتبادل العاهلان الرسائل بشأن حدة تبريد المواجهة، لكن تمسّك كلاً منهما بوجهة نظره قضى على فرص التفاهم، وقد حاول الإمبراطور المستحيل ليثني السلطان عن هدفه، فقدم له الأموال والهدايا المختلفة، وحاول رشوة بعض مستشاريه ليؤثروا على قراره، لكن كل تلك المحاولات ذهبت أدراج الريح، إذ أنجز السلطان بناء القلعة في غضون ثلاثة أشهر، وقد وصل ارتفاعها إلى ۸۲ مترًا، وأصبحت تقابل قلعة أناضولي حصار ولا يفصل بينهما سوى ٦٦۰ مترًا تتحكمان في عبور السفن من شرقي البوسفور إلى غربه وتستطيع نيران مدافعهما منع أية سفينة من الوصول إلى القسطنطينية من المناطق التي تقع شرقها مثل مملكة طرابزون وغيرها من الأماكن التي تستطيع دعم المدينة عند الحاجة. كما فرض السلطان رسومًا على كل سفينة تمر في مجال المدافع العثمانية المنصوبة في القلعة، وكان أن رفضت إحدى سفن البندقية أن تتوقف بعد أن أعطى العثمانيون لها عدداً من الإشارات، فتمّ إغراقها بطلقة مدفعية واحدة فقط.


السلطان محمد الثاني يقود جيش المسلمين لحصار القسطنطينية
بعد إتمام بناء القلعة، أخذ السلطان يجمع المواد ويُجهز الرجال، فأعدّ جيشًا جرّارًا، يُقدّر بمائتين وخمسين ألف جندي، عني عناية خاصة بتدريبهم على فنون القتال المختلفة وبمختلف أنواع الأسلحة التي تؤهلهم للغزو الكبير المنتظر، كما أعتنى الفاتح بإعدادهم إعدادًا معنويًا قويًا وغرس روحالجهاد فيهم، وتذكيرهم بثناء النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم على الجيش الذي يفتح القسطنطينية وعسى أن يكونوا هم الجيش المقصود بذلك، مما أعطاهم قوة معنوية وشجاعة منقطعة النظير، كما كان لانتشار العلماء بين الجنود أثر كبير في تقوية عزائمهم. واستخدم السلطان كل جديد في فنون الحرب، وبخاصة المدفعيّة وآلات الحصار الضخمة، واستأجر الصنّاع الأوروپيين ليصنعوا له أكبر مدفع عُرف حتى ذلك الوقت، هو "المدفع السلطاني"، الذي أشرف على صناعته مهندس مجري يُدعى أوربان، وقد قيل أن وزن هذا المدفع كان يصل إلى مئات الأطنان وأنه احتاج إلى مئات الثيران القوية لتحريكه. ويُضاف إلى هذا الاستعداد ما بذله الفاتح من عناية خاصة بالأسطول العثماني؛ حيث عمل على تقويته وتزويده بالسفن المختلفة ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية، تلك المدينة البحرية التي لا يكمل حصارها دون وجود قوة بحرية تقوم بهذه المهمة وقد ذُكر أن السفن التي أعدت لهذا الأمر بلغت أكثر من أربعمائة سفينة، بينما قال آخرون أن هذا الرقم مبالغ فيه وأن عدد السفن كان أقل من ذلك، حيث بلغت مائة وثمانين سفينة في الواقع. سعى السلطان، بعد كل هذه الاستعدادات، في إيجاد سبب لفتح باب الحرب، ولم يلبث أن وجد هذا السبب بتعدي الجنود العثمانيين على بعض قرى الروم ودفاع هؤلاء عن أنفسهم، حيث قُتل البعض من الفريقين. فعبر محمد الثاني على رأس جيشه إلى أوروپا ليضرب الحصار الأخير على القسطنطينية، وعمل على تمهيد الطريق بين أدرنة والقسطنطينية لكي تكون صالحة لجر المدافع العملاقة خلالها إلى القسطنطينية، وقد تحركت المدافع من أدرنة إلى قرب القسطنطينية، في مدة شهرين حيث تمت حمايتها بقسم الجيش حتى وصلت الأجناد العثمانية يقودها الفاتح بنفسه إلى مشارف القسطنطينية في يوم الخميس ٦ نيسان سنة ۱٤٥۳م، الموافق فيه ۲٦ ربيع الأول سنة ۸٥٧ هـ، فنصب المدافع والمجانيق على الشاطئ كي يمنع مرور السفن، وأقدم على تنفيذ خطة جس نبض حين قاد خمسين ألفًا من جنوده في مهمة استطلاعية لاختبار رد فعل دول أوروپا الغربيّة، ولإحداث وقع نفسي على الإمبراطور، كما أرسل فرقة عسكرية تولّت تطهير المناطق المجاورة للمدينة، وبعث فرقة أخرى، بقيادة قراجة بك، استولت على بقيّة المدن والقلاع التي كانت لا تزال بأيدي البيزنطيين في تراقيا. وعسكر الجيش العثماني على التلال الغربية للمدينة، وامتدت خيامه من الحدود الشمالية لخليج القرن الذهبي قرب قصر بلاشيرناي، إلى بحر مرمرة مقابل بوابة رومانوس. وقد جمع السلطان جنوده قبل يوم من بداية القتال وخطب فيهم خطبة قوية حثهم فيها على الجهاد وطلب النصر أو الشهادة، وذكّرهم فيها بالتضحية وصدق القتال عند اللقاء، وقرأ عليهم الآيات القرآنية التي تحث على ذلك، كما ذكر لهم الأحاديث النبوية التي تبشر بفتح القسطنطينية وفضل الجيش الفاتح لها وأميره، وما في فتحها من عز للإسلام والمسلمين، وقد بادر الجيش بالتهليل والتكبير والدعاء.


خريطة توضح حصار العثمانيين للقسطنطينية
السلطان محمد الثاني يخطب في الجنود قبل الهجوم على القسطنطينية
وبهذا ضرب السلطان الحصار على المدينة بجنوده من ناحية البر، وبأسطوله من ناحية البحر، وأقام حول المدينة أربع عشرة بطارية مدفعية وضع بها المدافع الجسيمة التي صنعها أوربان والتي قيل بأنها كانت تقذف كرات من الحجارة زنة كل واحدة منها اثنا عشر قنطارًا إلى مسافة ميل، إلا أن المؤرخين المعاصرين يقولون أن هذا الرقم مبالغ فيه بوضوح، فإنه ولو وُجد في ذلك الزمان آلة تستطيع أن تقذف هذا الوزن الكبير، فإنه لا يوجد أناس قادرين على رفع هذا الوزن ليضعوه في المدفع، فالقنطار يساوي ۲٥۰ كيلوغرامًا، فوزن القذيفة على هذا الاعتبار يكون ۳۰۰۰ كيلوغرامًا، وبالتالي فلعلّ المقصود كان ۱۲ رطلاً وليس قنطارًا. وفي أثناء الحصار اكتُشف قبر الصحابي أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، الذي استشهد حين حاصر القسطنطينية في سنة  ٥۲ هـ خلال خلافة معاوية بن أبي سفيان الأمويوفي هذا الوقت كان البيزنطيين قد قاموا بسد مداخل ميناء القسطنطينية بسلاسل حديدية غليظة حالت بين السفن العثمانية والوصول إلى القرن الذهبي، بل دمرت كل سفينة حاولت الدنو والاقتراب. إلا أن الأسطول العثماني نجح على الرغم من ذلك في الاستيلاء على جزر الأمراء في بحر مرمرة. كان الإمبراطور البيزنطي واقعيًا عندما أقنعته المحنة أن الأخوة والتعاون الأرثوذكسي - الكاثوليكي هو أحد الوسائل الأساسية لإنقاذ العاصمة من خاتمة مروّعة، وأدرك أن الأسوار والسلسلة الحديدية الطويلة وعزيمة الرجال وحملة إنقاذ من أوروپا الغربيّة ؛ هي التي يمكن أن تدفع العثمانيين بعيدًا عن أسوار القسطنطينية، لذلك طلب النجدة من أوروپا على وجه السرعة، لكن الرد الأوروپي جاء متفاوتًا لمصلحة كل دولة. فلبّى أهالي جنوة طلبه، وأرسلوا أسطولاً بحريًا تحت إمرة يوحنا جوستنياني يُرافقه سبعمائة مقاتل متطوع من دول أوروپية متعددة،  كما قدّم الجنويون، في غلطة، أربعة آلاف مقاتل، لم يكن هدفهم الحقيقي مساعدة الروم بقدر ما استهدفوا سبق البنادقة، في حال النصر. وكان في المدينة حوالي ألف وستمائة من البنادقة وغربيون آخرون يعيشون فيها، وقد عدّوا هذه الحرب على أنها حربهم.

العثمانيون يقصفون أسوار القسطنطينية
وأبدى البابا نقولا الخامس استعداده للمساعدة، شرط أن تتحد الكنيستان الشرقية والغربية. وافق قسطنطين على هذا الشرط، على الرغم من عمق جذور العداوة التاريخية بين الأرثوذكس والكاثوليك. وللدلالة على رغبته الإيجابية، فقد جرت، في كنيسة آيا صوفيا، مراسم دينية وفق المذهب الكاثوليكي، وتولّى إدارة المراسم الكاردينال إيزيدور الذي أرسله البابا لتنفيذ إجراءات الاتحاد. ويبدو أن الشعب البيزنطي اشمأز من ذلك، إذ قال رئيس الوزراء البيزنطي نوتاراس جملته التاريخية، معبرًا عن هذا الشعور: "إنني أفضل أن أشاهد في ديار الروم عمائم الترك على أن أشاهد القبعة اللاتينية!". وهكذا حال تعصّب الشعب دون تقديم المساعدة البابوية، أما الدول الأوروپة الأخرى فلم تنجده. وكتب قسطنطين أيضًا إلى ملوك وأمراء الشرق المسلمين منهم والمسيحيين، مبينًا لهم الخطر الذي يتهددهم نتيجة نمو الدولة العثمانية وتزايد قوتها. فطلب من ملوك طرابزون والكرج وفرسان القديس يوحنا وأمير القرمان وشاه فارس وسلطان المماليك أن يمدوه بالعون، لكن أحدًا من هؤلاء لم يجب دعوته، فاضطر البيزنطيون عندئذ أن يدافعوا بأنفسهم عن عاصمتهم. كان الحصار البري والبحري الذي فرضه العثمانيون على المدينة محكمًا، فقد عُزلت المدينة ولم يعد باستطاعة أحد دخولها أو خروجها، وفي صباح يوم ۱۲ نيسان، الموافق فيه ۲ ربيع الثاني، أُعطيت الإشارة للمدفعية بالقصف، وابتدأت الحرب. والواضح أن المدفعية كانت سلاحًا حاسمًا في الحصار، إذ أخذت تقصف أبواب وأسوار وأبراج المدينة، وبدأت كتل كبيرة من الأسوار الخارجية تتخلخل وتسقط على الأرض، ولكن عند حلول الظلام، كان البيزنطيون يعملون في إصلاحها. وفي هذا الوقت وصل يوحنا جوستنياني بمراكبه وأراد الدخول إلى ميناء القسطنطينية، فاعترضته السفن العثمانية ونشبت بينهما معركة هائلة في يوم ۲۱ نيسان سنة ۱٤٥۳م، الموافق فيه ۱۱ ربيع الثاني سنة ۸٥٧ هـ، انتهت بفوز جوستنياني ودخوله الميناء بعد أن رفع المحاصرون السلاسل الحديدية ثم أعادوها بعد مرور السفن الأوروپية كما كانت.


السلطان محمدالثاني يُشرف على نقل السفن عبر البر
حاولت القوات البحرية العثمانية تخطي السلاسل الضخمة التي تتحكم في مدخل القرن الذهبي والوصول بالسفن الإسلامية إليه، وأطلقوا سهامهم على السفن الأوروپية والبيزنطية ولكنهم فشلوا في تحقيق مرادهم في البداية، فارتفعت بهذا الروح المعنوية للمدافعين عن المدينة. بعد هذا الأمر، أخذ السلطان يُفكر في طريقة لدخول مراكبه إلى الميناء لإتمام الحصار برًا وبحرًا، فخطر بباله فكر غريب، وهو أن ينقل المراكب برًا خلف هضاب غلطة، من ميناء بشكطاش حتى القرن الذهبي، وذلك بهدف اجتياز السلسلة الموضوعة لمنعه. وتمّ هذا العمل بتمهيد طريق البر الذي يبلغ طوله فرسخ واحد، أي ثلاثة أميال، وُضعت فوقه ألواح من الخشب صُبّت عليها كمية من الزيت والدهن لتسيهل إنزلاق السفن عليها. وبهذه الكيفية أمكن نقل نحو سبعين سفينة في ليلة واحدة وإنزالها في القرن الذهبي على حين غفلة من البيزنطيين، وأضحت العاصمة البيزنطية، بعد ذلك، محاصرة ومهددة من الجهات كافّة. وحتى يموّه السلطان على هذه العملية، قامت مدفعيته، المرابطة خلف أسوار غلطة وفي أعلي الهضاب، بإطلاق قنابلها باتجاه الأسوار المُطلّة على القرن الذهبي بصورة مستمرة، ليلاً ونهارًا. ونجحت الخطة في صرف انتباه البيزنطيين والجنويين الذين دُهشوا عندما شاهدوا السفن العثمانية داخل القرن الذهبي، واستيقظ سكان المدينة، في صبيحة ۲۲ نيسان، الموافق فيه ۱۲ ربيع الثاني، على صيحات المسلمين المدوية "الله أكبر"، وشاهدوا أسطولهم يرسوا في القرن الذهبي. ولقد عبّر أحد المؤرخين البيزنطيين عن عجبهم من هذا العمل فقال:
<< ما رأينا ولا سمعنا من قبل بمثل هذا الشيء الخارق، محمد الثاني يحوّل الأرض إلى بحار وتعبر سفنه فوق قمم الجبال بدلاً من الأمواج، لقد فاق محمد الثاني بهذا العمل الإسكندر الأكبر >> 
المسلمون يتدفقون إلى القسطنطينية بعد انهيار أسوارها
كانت الصدمة عنيفة، إذ أن هذه العملية أحدثت انهيارًا في معنويات الروم، لأن الأسوار في هذه الناحية كانت ضعيفة ولم يكن يُعتمد عليها، لاستبعاد وصول أسطول معاد إلى داخل الميناء. أيقن المحاصرون عند هذا أن لا مناص من نصر العثمانيين عليهم، لكن لم تخمد عزائمهم بل ازدادوا إقداماً وصمموا على الدفاع عن مدينتهم حتى الممات. وبعد ستة أسابيع من الحصار والقصف، تبلورت مواقع اقتحام المدينة، وهي بين تكفور سراي وباب أدرنة، وعند باب القديس رومانوس في وادي ليكوس، وبالقرب من الباب العسكري الثالث. ومنعًا لمزيد من سفك الدماء، بعث السلطان العثماني رسولاً إلى الامبراطور البيزنطي، هو أمير سينوپ، يدعوه إلى تسليم المدينة، وعرض عليه تأمين خروجه وعائلته وأعوانه وكل من يرغب من سكان المدينة إلى حيث يشاؤون بأمان، وأن تحقن دماء الناس في المدينة ولا يتعرضوا لأي أذى وأعطاهم الخيار بالبقاء في المدينة أو الرحيل عنها، ولما وصلت الرسالة إلى الإمبراطور جمع المستشارين وعرض عليهم الأمر، فمال بعضهم إلى التسليم وأصر آخرون على استمرار الدفاع عن المدينة حتى الموت، فمال الامبراطور إلى رأي القائلين بالقتال حتى آخر لحظة، فرد الامبراطور رسول الفاتح برسالة قال فيها إنه يشكر الله إذ جنح السلطان إلى السلم وأنه يرضى أن يدفع له الجزية أما القسطنطينية فإنه أقسم أن يدافع عنها إلى آخر نفس في حياته فإما أن يحفظ عرشه أو يُدفن تحت أسوارها، وفعلاً دافع الإمبراطور عن المدينة بعزم اليائس، وجهّز جنوده السبعة آلاف بمدافع بدائية ورماح وقسي وسهام ومشاعل، وكان يتفقد باستمرار استعدادت الحصار والتحصينات، ويُشجّع الجند، أثناء قيامهم بواجباتهم، ولا ينام إلا لحظات خاطفة، ومع ذلك فإن الأسوار القديمة أخذت تتداعى وتنهار أكثر فأكثر تحت وطاة قذائف المدفعيّة.


دخول السلطان محمد الثاني إلى القسطنطينية
وعقد السلطان مجلسًا حربيًا لدرس الموقف، بعد الرفض البيزنطي بالاستسلام، فاقترح الصدر الأعظم خليل باشا، الذي كان يميل إلى البيزنطينين، رفع الحصار نظرًا لما كان قد شاع عن وصول قوّة غربية إلى ميناء خيوس، لكن السلطان عارض ذلك، وأمر بوجوب الاستعداد لتنفيذ هجوم عام، ووزع المهام القتالية على قادته، وقال جملةً شهيرة: "حسنًا عن قريب سيكون لي في القسطنطينية عرش أو أن يكون لي فيها قبر". وفعلاً، وقع الهجوم النهائي، عند الساعة الواحدة صباحًا من يوم الثلاثاء في ۲۹ أيار سنة ۱٤٥۳ م، الموافق فيه ۲۰ جمادى الأولى سنة ۸٥٧ هـ، بعد ثلاثة وخمسين يومًا من الحصار والضرب المتواصل، وتركّز على باب القديس رومانوس في وادي ليكوس. وشقّ العثمانيون طريقهم عبر خندق، ودخلوا كالموج المتلاطم مخترقين الأسوار، إلى المدينة التي أخذها الفزع من كل جانب. واستولى الجيش العثماني على المدينة عنوة، أما الإمبراطور قسطنطين فقاتل حتى مات في الدفاع عن وطنه كما وعد، ولم يهرب أو يتخاذل. ودخل السلطان  المدينة عند الظهر فوجد الجنود مشتغلة بالسلب والنهب، فأصدر أمره بمنع كل اعتداء، فساد الأمن حالاً، وسجد لله شاكرًا على النصر.  


تنظيم القسطنطينية بعد فتحها:
السلطان محمد الفاتح مع بطريرك الروم جورجيوس سكولاريوس
بعد أن دخل السلطان المدينة، توجه إلى كنيسة آيا صوفيا وقد اجتمع فيها خلق كبير من الناس ومعهم القسس والرهبان الذين كانوا يتلون عليهم صلواتهم وأدعيتهم، وعندما اقترب من أبوابها خاف المسيحيون داخلها خوفاً عظيماً، وقام أحد الرهبان بفتح الأبواب له فطلب من الراهب تهدئة الناس وطمأنتهم والعودة إلى بيوتهم بأمان، فأطمأن الناس وكان بعض الرهبان مختبئين في سراديب الكنيسة فلما رأوا تسامح الفاتح وعفوه خرجوا وأعلنوا إسلامهم، وقد أمر الفاتح بعد ذلك بأن يؤذن في الكنيسة بالصلاة إعلانًا بجعلها مسجدًا جامعًا للمسلمينوقد أعطى السلطان للنصارى حرية إقامة الشعائر الدينية واختيار رؤسائهم الدينين الذين لهم حق الحكم في النظر بالقضايا المدنية، كما أعطى هذا الحق لرجال الكنيسة في الأقاليم الأخرى ولكنه في الوقت نفسه فرض الجزية على الجميع. ثم قام بجمع رجال الدين المسيحيين لينتخبوا بطريركًا لهم، فاختاروا "جورجيوس كورتيسيوس سكولاريوس"، وأعطاهم نصف الكنائس الموجودة في المدينة، أما النصف الأخر فجعله جوامع للمسلمين. وبتمام فتح المدينة، نقل السلطان محمد مركز العاصمة إليها، وسُميت "إسلامبول"، أي "تخت الإسلام" أو "مدينة الإسلام". بعد تمام النصر والفتح، اتخذ السلطان لقب "الفاتح" عن جدارة، وألحقه بلقب آخر كبير هو "قيصر الروم"، على الرغم من أن هذا اللقب الأخير لم تعترف به بطريركيّة القسطنطينية ولا أوروپا الغربية. وكان السبب الذي جعل السلطان يتخذ هذا اللقب هو أن القسطنطينية كانت عاصمة الإمبراطورية الرومانية، بعد أن نُقل مركز الحكم إليها عام ۳۳۰ م بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية، وكونه هو سلطان المدينة فكان من حقه أن يحمل هذا اللقب. وكان للسلطان رابطة دم بالأسرة الملكية البيزنطية، بما أن كثيرًا من أسلافه، كالسلطان أورخان الأول، تزوجوا بأميرات بيزنطيات. ولم يكن السلطان هو الوحيد الذي حمل لقب القيصر في أيامه، إذ أن إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة في أوروپا الغربية، فريدريش الثالث، قال آنذاك بأنه يتحدر مباشرة من شارلمان، الذي حصل على لقب "قيصر" عندما توّجه البابا ليو الثالث عام ۸۰۰ م، على الرغم من عدم اعتراف الإمبراطورية البيزنطية بهذا الأمر عندئذ.


حرص الفاتح على أن تعود الحياة إلى المدينة بسرعة بعد فتحها، وأن تستفيد من المزايا العسكرية والاقتصادية التي كانت تتمتع بها، فأقدم على خطوات عدّة ساهمت في سرعة انتعاشها، منها: تشجيع هجرة الجماعات الإسلامية المختلفة إليها، وتشجيع من هاجر من سكانها الأصليين على العودة والاستمرار في مزاولة نشاطه، وبذلك زوّد دولته بقاعدة سياسية وثقافية قوية. كما حرص السلطان على تشجيع بقاء الجالية الجنوية، التي كان لها دور كبير في تنمية التجارة، فأبقى ما كان للجنويين من امتيازات وزاد عليها، فكانوا بذلك أداة لنمو ثروة المدينة من جهة، وواسطة الاتصال بالدول الأوروپية من جهة أخرى، وانتهج السلطان سياسة التسامح الديني حتى يتسنّى له الاستفادة من العناصر المسيحية التي أضحت تكوّن رعيّة السلطان المسؤولة عن استثمار البلاد، ولهذا أبقى المسؤوليات الدينية للأرثوذكس في يد الكنيسة وعلى رأسها بطريرك الروم. وهكذا أصبحت المدينة تعجّ بالحياة والنشاط من جديد، على الرغم من أن طابعها اليوناني قد اختلط بمزيج من العناصر الجديدة التي حشدها السلطان فيها. وكان السلطان قد أمر بحبس الصدر الأعظم خليل جندرلي باشا، الذي اتهم أثناء حصار القسطنطينية بالتعامل مع العدو أو تلقيه رشوة منهم لفضح تحركات الجيش العثماني، فحُبس لمدة أربعين يومًا وسُملت عيناه، ثم حُكم عليه بالإعدام فأعدم.


نتائج فتح القسطنطينية:
كان لسقوط القسطنطينية دوي كبير، سواء في الشرق أو في الغرب، كما يُعدّ أحد أكبر وقائع التاريخ العالمي، وحدًّا فاصلاً بين تاريخ العصور الوسطى وتاريخ العصور الحديثة. فقد زُينت القاهرة ودمشق وغيرها من عواصم الحضارة الإسلامية، وعمّ الفرح المسلمين، وأرسل السلطان المملوكي رسالة إلى السلطان محمد الفاتح يهنئه بالفتح، وخلع عليه الخليفة العباسي المقيم في القاهرة لقب صاحب النبوءة، وكان هذا، في حقيقة الأمر، توطئة للنفوس لتقبّل الزعامة التركية العثمانية الإسلامية الناشئة، فمنذ سنوات لم تُحرز أي دولة إسلامية إنتصارًا مدويًا كهذا. بعث السلطان الفاتح برسائل الفتح إلى سلطان المماليك وشاه فارس وشريف مكة وأمير القرمان، كما بعث برسائل مماثلة إلى الأمراء النصارى، المجاورين له، في المورة والأفلاق والمجر والبشناق والصرب وألبانيا، وإلى جميع أطراف مملكته، وتلقّى من بعضهم رسائل تهنئة. 


البابا نقولا الخامس
أما في الغرب، فقد كان تأثيره كبيرًا جدًا على مستقبل أوروپا، بحيث اهتز كل عرش في هذه القارة، وانتاب الملوك والأمراء شعور بالألم والخزي والهلع بعد أن سقط الحصن الذي طالما حمى أوروپا المسيحية من آسيا الإسلامية أكثر من ألف عام، وتجسّم لهم خطر المسلمين وتهديدهم، وتوجسوا أن يكون انتصار السلطان العثماني بداية لتوغل العثمانيين في أوروپا، فبذل الشعراء والأدباء ما في وسعهم لتأجيج نار الحقد وبراكين الغضب في نفوس المواطنين الأوروپيين ضد المسلمين، وعقد الأمراء والملوك اجتماعات طويلة ومستمرة وتنادوا إلى نبذ الخلافات والحزازات والتوحد ضد العثمانيين، ومما قيل عن السلطان في ذلك الوقت، وتناقله عدد من المؤرخين حتى الوقت الحالي، أنه قتل أخًا رضيعًا له اسمه أحمد، بعد توليه العرش، في حين إن الثابت أن أحمد مات غريقًا في حوض الماء بعد أن غفلت عنه مربيته. كذلك روى المؤرخ البيزنطي "دوكاس"، المعروف بإضفائه النكهة الدرامية والمواصفات المؤثرة على كتاباته، أنه عندما دخل محمد الثاني القسطنطينية، أمر بإحضار الابن الوسيم للدوق الأكبر لوقا نوتاراس البالغ من العمر ۱٤ ربيعًا، ليُشبع معه شهوته، وعندما رفض الأب تسليم ولده إلى السلطان، أمر الأخير بقطع رأس كليهما حيث وقفا، كما روى عالم اللاهوت ورئيس أساقفة ميتيليني، المدعو ليونارد الصاقيزي، نفس القصة في رسالة أرسلها إلى البابا نقولا الخامس، الذي كان أشد الناس تأثرًا بنبأ سقوط القسطنطينية، وعمل جهده وصرف وقته في توحيد الدول الإيطالية وتشجيعها على قتال المسلمين، وترأس مؤتمرًا عُقد في روما، أعلنت فيه الدول المشاركة عزمها على التعاون فيما بينها وتوجيه جميع جهودها وقوتها ضد العدو المشترك. وأوشك هذا الحلف أن يتحقق إلا أن الموت عاجل البابا في ۲٥ آذار سنة ۱٤٥٥ م، فلم تتم أي من هذه الخطط.


فتح بلاد الصرب:
الجيش العثماني يُحاصر بلغراد


لم يكن سقوط القسطنطينية، في نظر السلطان محمد الفاتح، بمثابة النهاية، بل إنه كان بداية، لها ما بعدها، إذ إنه وجّه اهتمامه إلى تعزيز سلطته في منطقة الدانوب ليواجه المجر، التي أثبتت، خلال العهد السابق، أنها العقبة الرئيسية أمام التوسع العثماني في أوروپا. فنتيجة لسقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين، سارع بعض أمراء الصرب، مثل جرادج برانكوڤيتش، إلى إعلان الخضوع للسلطان العثماني، وتعهّد بدفع مبلغ ثمانين ألف دوكا سنويًا، وإن كان مستعدًا لأن ينقض هذه التبعية إذا ما وجد مُشجعًا له على ذلك. أضف إلى ذلك، أن موقع البلاد الجغرافي جعلها محط أنظار السلطان، فهي كانت تقع بين ممتلكات العثمانيين ودولة المجر القوية تحت زعامة يوحنا هونياد، وكانت بعض أجزاء منها تقع تحت السيطرة العثمانية وبعض أجزاء أخرى تحت سيطرة المجر، وشكّلت بوابة العبور إلى الأخيرة. لهذه الأسباب أصرّ السلطان على أن تكون له وحده السيادة على الصرب، يُضاف إلى ذلك أن سياسة برانكوڤيتش اتسمت بالتذبذب، فكان يُظهر صداقة العثمانيين ويُبطن عداوتهم، ولم يتوان عن التعاون مع هونياد ضد العثمانيين عندما دعاه هذا الأخير لذلك، كما أن الحاجات المالية للدولة كانت في تزايد مستمر ما دفع الفاتح إلى الرغبة في استعادة إقليم نوڤوبرده الغني بالمناجم، والواقع تحت سيطرة برانكوڤيتش، فمن أجل ذلك، بادر السلطان إلى غزو بلاد الصرب قبل أن تتخذها القوّات المتحالفة مركزًا للهجوم على الأراضي العثمانية. فأتمّ ترتيباته وبناء ما هُدم من أسوار القسطنطينية وقام بتحصينها، وأمر ببناء مسجد بالقرب من قبر أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، جرت العادة فيما بعد أن يتقلد كل سلطان جديد سيف عثمان الغازي الأول في هذا المسجد، ثم سافر بجنوده إلى الصرب. 
يوحنا هونياد


والتجأ برانكوڤيتش إلى هونياد المُلقب بالفارس الأبيض، وتعاونا، في مقاومة ناجحة في بادئ الأمر، ضد الجيوش العثمانية، غير أنه وجد نفسه أضعف من أن يُقاوم العثمانيين، فآثر الاستسلام، وقبل أن يدفع جزية سنوية قدرها ثلاثون ألف دوكا، وكان من أسباب تراجعه عن مقاومة العثمانيين أن شعبه لم يرغب في مساعدة المجر لهم لاختلاف مذهبهم، حيث كان المجر كاثوليكيين تابعين لبابا روما، والصرب أرثوذكسيين لا يذعنون لسلطة البابا بل كانوا يفضلون تسلط المسلمين عليهم لما رأوه من عدم تعرضهم للدين مطلقًا. وتوغل السلطان في بلاد الصرب يفتح المدن والقلاع، ففتح مدينة نوڤبرده الغنية وقلاعًا عديدة، ولم يبق أمامه سوى مدينة بلغراد الحصينة، فحاصرها في صيف سنة ۱٤٥٦ م، الموافق فيه سنة ۸٦۰ هـ، ولكن من دون جدوى، إذ كان هونياد المجري دخل المدينة قبل إتمام الحصار عليها ودافع عنها دفاع الأبطال حتى يئس السلطان من فتحها ورفع عنها الحصار، وعاد إلى أدرنة. والجدير بالذكر، هنا، أن السلطان جُرح في هذه المعركة، كما جُرح هونياد، من جرّاء القصف، بجرح بالغ أدّى إلى وفاته، فيما بعد. وساعدت الظروف السلطان العثماني بوفاة كل من هونياد في ۱۱ آب سنة ۱٤٥٦ م، الموافق فيه ۹ رمضان سنة ۸٦۰ هـ، وبرانكوڤيتش في ۲٤ كانون الأول سنة ۱٤٥٧ م، الموافق فيه ٦ محرّم سنة ۸٦۲ هـ، حيث دبّت الفوضى في حكومة بلغراد بسبب تنازع ورثة برانكوڤيتش فيما بينهم، الأمر الذي مكّن السلطان من تجهيز حملة أخرى، بقيادة الصدر الأعظم محمود باشا، وأرسلها إلى بلاد الصرب لاستكمال فتحها. وفعلاً أنجز الصدر الأعظم العمل في مدة سنتين، وتمكّن من وضع يده على بلاد الصرب باستثناء مدينة بلغراد، وأعاد فتح مدينة سمندرية، وأسس لواء فيها، وبذلك أضحت الصرب ولاية عثمانية. 


فتح بلاد المورة:
كانت بلاد المورة مقسّمة بين الأميرين البيزنطيين الأخوين طوماس وديميتريوس، فأقام الأول في بتراس، في حين سكن الثاني في أسبرطة. لم يكن الأخوان على وفاق فيما بينهما، ما أدى إلى تدخل الألبانيين في شؤونهما الداخلية، بالإضافة إلى أنهما نزعا إلى الظلم والاستبداد وتأخّرا في دفع الجزية المفروضة عليهما سنوات عدّة. لم يكن بوسع السلطان السكوت عن التدخل الألباني في المورة، كما لم يرض عن تزايد الفوضى وظلم السكّان، فكان لا بد من التدخل السريع لوضع حد لكل ما يحصل. وفعلاً قاد السلطان حملة في عام ۱٤٥۸ م، الموافق لعام ۸٦۲ هـ، لفتح بلاد المورة، ودخلها من مضيق كورنته، وأجبر الألبانيين على الخروج من البلاد، وفرض على الأخوين البيزنطيين جزية سنوية قدرها خمسة آلاف قطعة ذهبية، كما فتح مدن عدّة، وضمّ جميع الجانب الشرقي من المورة إلى الدولة العثمانية. ويبدو أن طوماس خضع للعثمانيين على كره منه، ولبث يترقّب الفرصة لإعلان تمرّده. وفعلاً استغل هذا الحاكم انهماك السلطان بقمع الاضطرابات التي حدثت في آسيا الصغرى وانشغاله في الصرب، فهاجم أخاه ديميتريوس والحاميات العثمانية في المورة، واستولى على مدن عدّة، واستنجد هذا الأخير بالسلطان الذي عاد إلى المورة ودخلها بجيش عرمرم، فهرب طوماس إلى إيطاليا. ومنعًا لتجدد أعمال التمرد على الحكم العثماني، وضع السلطان الإقليم تحت السيطرة المباشرة للدولة، ونفى دمتريوس إلى إحدى جزر الأرخبيل، وفتح خلال حملته هذه مدينة أثينا في عام ۱٤٦۰ م، الموافق  لعام ۸٦٤ هـ، على أثر حصول نزاع عائلي بين حكّامها، كما ضمّ بعد ذلك في عام ۱٤٦٤ م، الموافق لعام ۸٦۸ هـ، جزر الأرخبيل مثل طاشوز وأنبروس، حتى أضحت بلاد اليونان تحت السيطرة العثمانية المباشرة، باستثناء بعض المواقع والقلاع المتفرقة على الشواطئ مثل كورون ومودون وآرگوس وليپانت، التي كان أغلبها للبنادقة.

توحيد الأناضول:
بعد عودة السلطان من بلاد اليونان أبرم صلحًا مع إسكندر بك وترك له إقليما ألبانيا وإيبيروس، ثم حوّل أنظاره إلى آسيا الصغرى ليفتح ما بقي منها، بعد أن تآمرت الإمارات والممالك الإسلامية والمسيحية الباقية فيها على الدولة العثمانية، وتولّت زعامة هذه الحركة مملكة طرابزون الروميّة، فقد راودت إمبراطورها يوحنا الرابع فكرة إخراج العثمانيين من آسيا الصغرى كلها، ولم يعتبر بما حصل لإمبراطور القسطنطينية. وراح يوحنا هذا يُفاوض الدول المجاورة والصديقة بهدف تشكيل ائتلاف ضد العثمانيين، ووجد في الأمير التركماني الطموح أوزون حسن، أو "حسن الطويل"، أمير دولة الخراف البيض، خير حليف ونصير، وقد جمعتهما مصلحة مشتركة هي كراهية العثمانيين، وتمتّنت أواصر الصداقة بين الرجلين بالمصاهرة، حيث تزوّج أوزون حسن من كاترين، ابنة يوحنا. ونجح يوحنا في استقطاب الأمراء المجاورين له، وهم أمراء سينوپ والقرمان والكرج وأرمينيا الصغرى، الذين جمعهم، على اختلاف أجناسهم وعقائدهم، الحقد على الدولة العثمانية والخوف من امتدادها نحو أراضيهم. وحاول يوحنا أن يضمّ إلى هذه القوى الشرقية، قوّة أوروپا الغربية، فأجرى مفاوضات مع البابا  من أجل هذه الغاية، غير أن الوفاة أدركته في عام ۱٤٥۸ م، الموافق لعام ۸٦۲ هـ، قبل أن يتم مشروعه، واستبدّ بالحكم بعده أخوه داوود، وكان على صفات أخيه، فواصل جهوده لإتمام تكوين الجبهة المتحدة ضد العثمانيين، وسانده دوق بورغنديا، وأوصى البابا دول الغرب الأخرى بتقديم المساعدة. وكانت جنوة، فيما تملك من مستعمرات في الشرق، تملك مدينة أماستريس في آسيا الصغرى على شلطئ البحر الأسود وكفّة في شبه جزيرة القرم، وتُعدّ هاتان المستعمرتان، وبخاصة الأخيرة منهما، من أهم المراكز التجارية لجنوة في الشرق. لكن جنوة أصابها الوهن في الوقت الذي نمت فيه الدولة العثمانية وتوسّعت في فتوحها، فخشيت على مستعمراتها الشرقية، لذلك سلّمت هذه المستعمرات إلى المؤسسة القوية "مصرف القديس جرجس" لتتصرف فيها كما تشاء. وقامت هذه المؤسسة بدور بارز في تأليب القوى ضد الدولة العثمانية، بالتنسيق مع إمبراطور طرابزون، وبمساندة من البابوية التي عدّت هذه المواقع المطلّة على البحر الأسود بمثابة مواقع أمامية لأوروپا الكاثوليكية. 


ونسّقت القوى المتحدة خطة عسكرية تستند على فتح جبهتين في الوقت نفسه، جبهة في الغرب وأخرى في الشرق، بحيث يقع العثمانيون بين فكيّ الكماشة. لم يغب عن الفاتح ما كان يحوكه إمبراطور طرابزون، بالاشتراك مع حاكم أماستريس، من الدسائس، فقام يواجه هذا الائتلاف بكل ثبات. وبعد مضيّ عامين من الاتصالات والمشاورات تحرّك أوزون حسن، بإيعاز من إمبراطور طرابزون، فطلب من الفاتح إسقاط الجزية عن إمارته، وتجرّأ بأن طالبه بدفع الجزية إليه. والواقع أن الفاتح قرر ضرب أعدائه، لذلك رفض طلب أوزون حسن. وما أن انتهى من فتح بلاد المورة حتى أعدّ، في ربيع سنة ۱٤٦۱ م، الموافقة لسنة ۸٦٥ هـ، جيشًا بريًا تولّى قيادته بنفسه، وأسطولاً بحريًا عهد بقيادته إلى محمد باشا، وأسرع بالزحف نحو أماستريس، وكانت مركز تجارة أهالي جنوة النازلين بهذه الأصقاع، وفتحها دون مقاومة، حيث أخذها على غرّة، ثم واصل زحفه نحو سينوپ الغنية بمناجمها ومعادنها، وكان يخشى أن تقع في أيدي أوزون حسن ويتخذها المتحالفون قاعدة لأعمالهم العسكرية. وأرسل الفاتح إلى حاكم الإمارة، ويُدعى إسماعيل بك، طلبًا للخضوع له وتسليم إمارته على أن يُعوضه عنها مدينة أخرى، وهدده بدخول المدينة عنوة إذا رفض. أدرك إسماعيل أنه لا قبل له بمواجهة الجيش العثماني، فطلب الأمان وذهب إلى خيمة السلطان الذي استقبله بالترحاب وأقطعه أراضي واسعة في جهات بورصة ويكي شهر وآينة كول، وبذلك دخلت إمارة سينوپ في قضبة العثمانيين. لم يُضيّع الفاتح شيئًا من الوقت، فأمر أسطوله بمواصلة الإبحار إلى طرابزون، في حين زحف هو بجيشه البري نحو أرضروم عن طريق أماسيا لضرب أوزون حسن المتقدم لنجدة حليفه داوود إمبراطور المدينة. وذُعر أوزون حسن من هذا الظهور السريع وغير المنتظر للفاتح، في هذه المنطقة، ورأى أنه لا قبل له بمفرده بمقاتلته، فجنح إلى السلم، واشترط الفاتح أن يكف الأمير التركماني عن نصرة إمبراطور طرابزون وأن يوقف اعتداءاته على مناطق الحدود، فقبل أوزون حسن ما عرضه الفاتح وعُقد الصلح بينهما. وترك السلطان المنطقة، بعد ذلك، وعاد إلى طرابزون لفتحها، وكان أسطوله قد ضرب حصارًا بحريًا حولها، وكان حاكمها داوود يترقّب في قلق وصول الإمدادات إليه من حليفه أوزون حسن، ولم يكن قد بلغه شيء مما تمّ بينه وبين الفاتح، ومع وصول السلطان إلى طرابزون، من ناحية البر، أُسقط في يد داوود ما دفعه إلى الاستسلام، فسقطت المدينة في يد الفاتح، الذي قبض على الملك وأولاده وزوجته وأرسلهم إلى أدرنة ليقيموا فيها.


فتح إقليميّ الأفلاق والبشناق:
أمير الأفلاق ڤلاد دراكول الثالث "المخوزق"


ما أن عاد السلطان إلى القسطنطينية حتى جهز جيشًا لمحاربة أمير الأفلاق المدعو ڤلاد دراكول الثالث "المخوزق"، لمعاقبته على ما ارتكبه من الفظائع مع أهالي بلاده والتعدّي على التجار العثمانيين النازلين بها، وللتخلص من السياسة المتذبذبة لدولته التي كانت، بحكم موقعها الجغرافي، تحالف الدولة العثمانية تارة، والمجر أو پولندة تارة أخرى، وفقًا لمصلحتها. وكان حاكم الأفلاق دراكول قد عقد في عام ۱٤٦۰ م، الموافقة لعام ۸٦٤ هـ، معاهدة مع السلطان محمد الفاتح تعهد بموجبها بأن يدفع جزية سنوية قدرها عشرة آلاف دوكا مقابل احتفاظ الإمارة بإدارتها الداخلية، وحماية عثمانية ضد أي عدوان خارجي. ولمّا علم بجهوزية السلطان لقتاله، أرسل إليه هذا الأمير وفدًا يعرض عليه دفع الجزية السنوية المتفق عليها بشرط أن يُصادق على جميع الشروط الواردة بالمعاهدة التي أبرمت في سنة ۱۳۹۳ م بين أمير الفلاخ آنذاك والسلطان بايزيد الأول، فقبل السلطان محمد الثاني هذا الاقتراح وعاد بجيوشه. ولم يقصد أمير الفلاخ بهذه المعاهدة إلا التمكن من الاتحاد مع ملك المجر متياس كورڤينوس ومحاربة العثمانيين. فلمّا علم السلطان باتحادهما أرسل إليه مندوبين يسألانه عن الحقيقة، فقبض عليهما وقتلهما بوضعهما على عمود محدد من الخشب، الذي يُعرف بالخازوق. وأغار بعدها على بلاد بلغاريا التابعة للدولة العثمانية وعاث فيها فسادًا، ورجع بخمسة وعشرين ألف أسير، فأرسل إليه السلطان رسلاً يدعونه إلى الطاعة وإخلاء سبيل الأسرى، فلمّا مثل الرسل أمامه أمرهم برفع عمائمهم لتعظيمه، وعند إبائهم طلبه لمخالفته لعوائدهم، أمر بأن تُسمّر عمائمهم على رؤسهم بمسامير من حديد. 
لوحة "المعركة بالمشاعل"
 المناوشة الليلية بين الجيش العثماني والأفلاقي


فلمّا وصلت هذه الأخبار إلى السلطان محمد استشاط غضبًا وسار على الفور بحوالي ٦۰,۰۰۰ جندي نظامي و ۳۰,۰۰۰ غير نظامي، فوصل بسرعة إلى مدينة  بوخارست، عاصمة الأمير، بعد أن هزمه وفرّق جيوشه، لكنه لم يتمكن من القبض عليه لمجازاته على ما اقترفه بحق العثمانيين والبلغار، لهروبه والتجائه إلى ملك المجر، فنادى السلطان بعزله ونصب مكانه أخاه "راؤول" لثقته به بما أنه تربّى في حضانة السلطان منذ نعومة أظفاره، وبذا ضُمّت بلاد الأفلاق إلى الدولة العثمانية. ويُقال أنه عند وصول السلطان محمد إلى ضواحي بوخارست، وجد حول المدينة غابة من الخوازيق التي عُلّقت عليها جثث الأسرى الذين أتى بهم أمير الأفلاق من بلاد بلغاريا، وقتلهم عن آخرهم بما فيهم الأطفال والنساء، وكذلك الجنود العثمانيين الذين كان قد قبض عليهم إثر مناوشة ليلية، وكان عددهم جميعا عشرين ألفًا.
فرمان السلطان الفاتح
إلى أهالي البوسنة الفرنسيسكان


بعد فتح العثمانيين لبلاد الصرب، أضحوا يجاورون البشناق، وبالتحديد البوسنة التي اشتهرت بقلاعها الكثيرة وجبالها المنيعة، وكان أمير هذه البلاد أسطفان طوماسيڤيتش أشد خطرًا على الدولة العثمانية من أي أمير صربي آخر، لأنه كان حليفًا للبابا والبندقية والمجر، ويسعى إلى تأليب هؤلاء على العثمانيين، لذلك تطلّع السلطان إلى فتح هذه البلاد منعًا لقيام تحالف أوروپي ضده، فبعث إلى أميرها يطلب منه الخضوع للدولة العثمانية، والاعتراف بسيادتها، ودفع الجزية لها، إلاّ أن أسطفان رفض طلب السلطان ما دفع هذا الأخير إلى الزحف باتجاه هذا البلد. واستنجد أسطفان بملك المجر والبابا پيوس الثاني، وبيّن لهما أنه لو تمّ للعثمانيين السيطرة على البوسنة فإنهم سينقضّون بعد ذلك على إيطاليا وروما عاصمة الكثلكة، إلا أنه لم ينل إلا الوعود. وفي أوائل ربيع سنة ۱٤٦۳ م، الموافقة لسنة ۸٦٧ هـ، بعث السلطان رسولاً آخر إلى أسطفان يُخيّره بين الإسلام أو الجزية أو القتال، فكان جوابه الرفض أيضًا، عندئذ زحف الفاتح باتجاه بلاد البشناق واستولى على مدن وقلاع البوسنة وأجبر أسطفان على الاستسلام، ولم يكد ينتصف شهر حزيران حتى أضحت بلاد البوسنة كلها ولاية من ولايات الدولة العثمانية. أمر السلطان بإعدام كل من أسطفان وولده بعد أن أسرهما،  وأرسل فرمانًا إلى الفرنسيسكان من سكان تلك البلاد يُطمئنهم بعدم تعرّض أي منهم للاضطهاد بسبب معتقداتهم الدينية، فقال: 
<< أنا السلطان محمد خان الفاتح، أعلن للعالم أجمع أن، أهل البوسنة الفرنسيسكان قد مُنحوا بموجب هذا الفرمان السلطاني حماية جلالتي. ونحن نأمر بأن: لا يتعرض أحد لهؤلاء الناس ولا لكنائسهم وصلبهم ! وبأنهم سيعيشون بسلام في دولتي. وبأن أولئك الذين هجروا ديارهم منهم، سيحظون بالأمان والحرية. وسيُسمح لهم بالعودة إلى أديرتهم الواقعة ضمن حدود دولتنا العليّة. لا أحد من دولتنا سواء كان نبيلاً، وزيرًا، رجل دين، أو من خدمنا سيتعرض لهم في شرفهم وفي أنفسهم ! لا أحد سوف يهدد، أو يتعرض لهؤلاء الناس في أنفسهم، ممتلكاتهم، وكنائسهم ! وسيحظى كل ما أحضروه معهم من متاع من بلادهم بنفس الحماية... وبإعلان هذا الفرمان، أقسم بالله العظيم الذي خلق الأرض في ستة أيام ورفع السماء بلا عمد، وبسيدنا محمد عبده ورسوله، وجميع الأنبياء والصالحين رضوان الله عليهم أجمعين، بأنه؛ لن نسمح بأن يُخالف أي من أفراد رعيتنا أمر هذا الفرمان !>>
وتوجّه السلطان بعد ذلك إلى الهرسك، القسم الثاني من البشناق، فقد كان فتح هذا البلد يُشكّل ضرورة سياسية وعسكرية نظرًا لمناعة حصونه وموقعه الجغرافي المشرف على البحر الأدرياتيكي. وعهد الفاتح بهذه المهمة إلى الصدر الأعظم محمود باشا الذي تمكن من فتحه، وقسّمه السلطان إلى قسمين، فأدمج القسم الأكثر أهمية في الدولة العثمانية، وأقطع أميره القسم الآخر.  وفي سنة ۱٤٦٤ م، أراد متياس كورڤينوس ملك المجر استخلاص البوسنة من العثمانيين، فهُزم بعد أن قُتل معظم جيشه، وكانت عاقبة تدخله أن جُعلت البوسنة ولاية كباقي ولايات الدولة، وسُلبت ما كان مُنح لها من الامتيازات، ودخل في جيش الإنكشارية ثلاثون ألفًا من شبانها وأسلم أغلب أشراف أهاليها.


فتح ألبانيا وبداية الحرب الكبرى مع البندقية:
حصن آرگوس
فتحه العثمانيون في بداية الحرب الكبرى
مع البندقية


ابتدأت حركات العدوان بين العثمانيين والبنادقة في سنة ۱٤٦۳ م، وما لبثت أن تطورت حتى أصبحت حربًا طويلة قاسية عُرفت في التاريخ باسم "الحرب الكبرى"، استمرت ستة عشر عامًا. ويبدو أن السبب المباشر لهذه الحرب هو إلحاق ملكية البوسنة بالدولة العثمانية، لكن السبب الحقيقي هو الفتح العثماني للقسطنطينية وإغلاق العثمانيين المضائق في وجه سفن البندقية، بالإضافة إلى حيازة العثمانيين على قوة عسكرية واقتصادية لا تسمح لأي دولة أن تنال منهم، وشكّل سلوك العثمانيين الظافرين مصدرًا للقلق. وباختصار يمكن القول أنها حرب قامت من أجل المصالح التجارية. ابتدأت الحرب بسبب هروب أحد الرقيق إلى مدينة كورون التابعة للبندقية، وامتناع حكومتها عن تسليمه بحجة أنه اعتنق المسيحية دينًا. فاتخذ العثمانيون ذلك سببًا للاستيلاء على مدينة آرگوس، وقد تركزت الجولة الأولى من الحرب في شبه جزيرة المورة، وحقق العثمانيون انتصارات باهرة ودخلوا مدينة أسبرطة. بعد هذه الانتصارات، استنجد البنادقة بحكومتهم، فأرسلت إليهم عددًا من السفن محملة بالجنود، وأنزلتهم إلى بلاد المورة، فثار سكانها وقاتلوا الجنود العثمانيين المحافظين على بلادهم وأقاموا ما كان قد تهدم من سور برزخ كورون لمنع وصول المدد من الدولة العثمانية، وحاصروا المدينة نفسها واستخلصوا مدينة آرگوس من المسلمين. لكن لما علموا بقدوم السلطان مع جيش يبلغ عدده ثمانين ألف مقاتل، تركوا البرزخ راجعين على أعقابهم، فدخل العثمانيون بلاد المورة بدون معارضة كبيرة واسترجعوا كل ما أخذوه وأرجعوا السكينة إلى البلاد. وفي السنة التالية أعاد البنادقة الكرّة على بلاد المورة دون فائدة.
إسكندر بك


وبعد ذلك، حاول البابا پيوس الثاني بكل ما أوتي من مهارة وقدرة سياسية تركيز جهوده في ناحيتين اثنتين: حاول أولاً أن يقنع الأتراك باعتناق الدين المسيحي، ولم يقم بإرسال بعثات تبشيرية لذلك الغرض وانما اقتصر على إرسال خطاب إلى السلطان محمد الفاتح يطلب منه أن يعتنق المسيحية، كما اعتنقها قبله قسطنطين وكلوڤيس ووعده بأنه سيكفّر عنه خطاياه إن هو اعتنق المسيحية مخلصًا، ووعده بمنحه بركته واحتضانه ومنحه صكًا بدخول الجنة. ولما فشل البابا في خطته هذه لجأ إلى الخطة الثانية، خطة التهديد والوعيد واستعمال القوة، فحاول تأجيج الحقد الصليبي في نفوس النصارى شعوبًا وملوكًا، قادة وجنودًا، واستعدت بعض الدول لتحقيق فكرة البابا الهادفة للقضاء على العثمانيين، ولكن لما حان وقت النفير اعتذرت دول أوروپا بسبب متاعبها الداخلية المختلفة. وعالج المنون البابا بعد هذا بفترة قصيرة، إلا أن تحريضاته كانت قد أثرت في إسكندر بك الألباني، فحارب الجنود العثمانيين وحصل بينهما عدّة وقائع أريقت فيها كثير من الدماء، وكانت الحرب فيها سجالاً. وفي سنة ۱٤٦٧ م، الموافقة لسنة ۸٧۱ هـ، توفي إسكندر بك بعد أن حارب الدولة العثمانية ۲٥ سنة دون أن تتمكن من قمعه، وعندها فقط تمكن العثمانيون من السيطرة على ألبانيا، إذ لم يكن لاسكندر بك عقب يخلفه غير غلام قاصر. استمرت الحرب مع البندقية بعد دخول العثمانيين إلى ألبانيا، بفعل عهد إسكندر بك إلى البنادقة بالدفاع عن بلاده، والمعروف أن السلطان محمد الفاتح كان قد عقد مع إسكندر بك معاهدة في شهر حزيران من عام ۱٤٦۱ م، الموافق فيه شهر رمضان من سنة ۸٦٥ هـ، تنازل بموجبها عن إقليميّ ألبانيا وأپيروس، إلا أن إسكندر بك نقضها بعد ثلاث سنوات، واصطدم بالقوات العثمانية في معارك التحامية كان فيها النصر حليفه.

نتيجةً للمواجهات الفاشلة في المورة مع الدولة العثمانية، رأت البندقية ظان تستند على فكرة حرب العثمانيين من الشرق والغرب في الوقت نفسه، فراحت تبحث عن حلفاء لها في منطقة الأناضول الشرقي، كما لم تهمل محالفاتها مع الغرب الأوروپي. كان في بلاد الأناضول آنذاك ثلاث إمارات من الأسر التركمانية، وهي إمارتا القرمانيين وذي القدر، التابعتان للسيادة العثمانية، وإمارة رمضان، التابعة للمماليك في مصر. وهكذا تطلعت البندقية إلى إمارة القرمان لتحريضها على مهاجمة العثمانيين، وبخاصة أن هذه الإمارة قد أخذت على عاتقها في السابق القيام بمضايقتهم، إلا أنه، منذ عام ۱٤٦٦ م، الموافق لعام ۸٧۰ هـ، خضعت الإمارة القرمانية للسيطرة العثمانية بعد الضربة التي تلقتها على يد الفاتح الذي دخل قونية، وسيطر على لارندا وأجلس ابنه الأمير مصطفى على عرش هذه الإمارة، وبالتالي لم تعد إمارة القرمانيين الحليف الذي يمكن أن يسدد ضربة للدولة العثمانية. فتوجّهت الأنظار نحو مصر، حيث حاول البنادقة تحريض المماليك ضد العثمانيين بفعل الخلافات الحدودية بين الطرفين، ولكن السلطان المملوكي والخليفة العباسي ما كانا ليتحالفا مع دولة أوروپية مسيحية، ضد الدولة الإسلامية، بفعل كون المماليك مسلمين من جهة، ولأن الخلافات ليست بالدرجة التي تجعلها تُقدم على دخول حرب واسعة النطاق، يُضاف إلى ذلك أنه لم تظهر من جانب السلطان الفاتح أية بوادر تشير إلى رغبته في اجتياز الفرات وجبال طوروس نحو العراق وبلاد الشام التابعة للمماليك، وإنما ركّز جهوده على أوروپا.

نتيجةً لهذه المواقف السياسية، تطلّعت البندقية إلى إمارة الخراف البيض، وعقدت آمالها على أوزون حسن الذي أبدى استعدادًا لمهاجمة العثمانيين، وأثبت هذا الأمير التركماني أنه يملك قوة عسكرية هائلة، فهو يسيطر على الأناضول الشرقية، ويتحرّق غيظًا من السلطان العثماني الذي قضى على إمبراطورية طرابزون التي تشده إليها روابط عائلية، بالإضافة إلى أنه قضى على إمارة القرمانيين ما أحدث خللاً وتضعضعًا في التوازن في المنطقة. وكانت المصالح التجارية دافعًا قويًا لأوزون حسن للاصطدام بالعثمانيين، ذلك أن طرابزون كانت منفذًا للتجارة الإيرانية ومرتبطة تجاريًا بعاصمته تبريز، وقد خشي أن الامتداد التوسعي العثماني، باتجاه الشمال والشرق، سوف يقضي على مصالحه التجارية، لأن العثمانيون سيتحكمون عندئذ بالطرق التجارية ويُضايقون التجار الإيرانيين، لذلك حاول الاستيلاء على أعالي الفرات، وهي الطريق الطبيعي للتجارة الإيرانية التي ترتبط بالأناضول بشبكة من الطرق التجارية امتدادًا إلى شمالي الشام. وكان القضاء على إمبراطورية طرابزون من قبل السلطان محمد الفاتح، الشرارة التي أشعلت نار الحرب بين العاهلين. وقد راودت الأمير التركماني فكرة القضاء على العثمانيين والمماليك معًا ليقيم على أنقاض ملكهما تلك الدولة الواسعة التي كان يحلم بها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق